إن الله جل وعلا وضع علامات في كل المخلوقات لتعرفنا ببعض صفاته، فنعرف بذلك ربنا جل وعلا، وبهذا تنقطع جميع الدعوات الباطلة التي تنسب الألوهية والربوبية إلى غير الله سبحانه وتعالى. ومنهج القرآن يعرض أمامنا الكون المشاهد، ويقول لنا هذه آيات الله في كل شئ تدلنا عليه سبحانه وليس هناك دليل واحد على تأليه غير الله سبحانه.
من آيات الله في الماء لا حياة بلا ماء:
الماء ضروري للحياة وبدونه تنعدم. فعندما انفصلت الأرض عن مادة السماء أودع الله فيها عنصر الماء بكميات تتناسب مع الحياة على الأرض، فلو زادت نسبة الماء في الأرض عند انفصالها لغمرت المياه القارات، وانعدمت حياة الكائنات البرية والإنسان، ولو نقصت كمية المياه لما توفرت لنا الأمطار الكافية لاستمرار الحياة.
ويكوّن الماء نسبة كبيرة من أجسام الكائنات الحية، فيبلغ في النبات نسبة 90%. وهو الوسط المناسب الوحيد لإتمام جميع العمليات الحيوية في أجسام الكائنات الحية. كما يشترط علماء الفلك وجود الماء لإمكانية قيام الحياة في أي كوكب قال تعالى {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء:30). ولو أن الله جعل مياه البحار عذبة لهاجمتها جراثيم التعفن وأفسدت بيئة الأرض، لكن الله جعلها ملحة حتى لا تتعفن.
إسكان الماء في الأرض:
جعل الخالق سبحانه للماء درجة غليان عالية (100ْ) مئوية، وليست منخفضة كدرجة غليان باقي الموائع من المذيبات كالكحول والبنزين التي تغلي عند درجة حرارة منخفضة. فلو كانت مياه البحر تغلي عند درجة منخفضة لتبخرت مياه البحار والأنهار ولكان الماء معلقًا في جو الأرض في صورة بخار كما هو الحال في كوكب الزهرة. ولو زادت درجة غليان الماء لأبطأت عملية التبخر، فلا نحصل على الكمية الكافية من الأمطار، فسبحان الخالق الحكيم العليم الخبير.
تقدير لا شذوذ:
تكون كثافة السوائل في أعلى درجاتها عندما تصل إلى الحالة الصلبة، لكن الماء يختلف عن بقية السوائل فتكون أعلى درجة لكثافته وهو سائل عند 4ْ مئوية، ثم تنقص كثافته كلما انخفضت درجة حرارته، ويتحول إلى مادة صلبة بتجمده عند درجة صفر متحولًا إلى ثلج أقل كثافة من الماء في حالة السيولة لذا يطفوا الثلج في المحيطات والبحيرات والأنهار، وتبقى المياه تحته سائلة صالحة لحياة الأسماك والكائنات الحية. ولو كان الثلج مثل بقية السوائل أكثر كثافة في حالة الصلبة فسيغطس إلى قاع البحار والبحيرات والأنهار، وفي المناطق البادرة في الشتاء يتحول البحر إلى كتلة من الثلج لا أثر فيها للحياة ولا يسهل فيها الانتقال، فمن الذي قدر للماء هذه الخاصية التي اختلف بها عن سائر السوائل؟ إنه العليم الخبير الرحيم بالكائنات المائية سبحانه.
الماء مكيف عام للأرض:
وانظر إلى الحرارة النوعية العالية للماء، فتسخين جرام واحد من الماء يحتاج إلى حوالي خمسة أضعاف الحرارة اللازمة لتسخين جرام واحدٍ من الألمنيوم (لذلك تسخن الأواني المعدنية قبل الماء الذي بداخلها).
وبسبب هذه الخاصية ترتفع درجة حرارة البحار والمحيطات ببطء عند تعرضها لحرارة الشمس، فتظل البحار والأسطح المائية على الأرض في النهار باردة نسبيًا فتقوم بتبريد الغلاف الجوي الملامس لها بينما تظل درجات الحرارة على اليابسة مرتفعة بسبب انخفاض درجة الحرارة النوعية للصخور، فيرتفع الهواء فوق اليابسة بسبب ارتفاع درجة الحرارة فيقل الضغط وبذلك تهب الرياح من البحر حيث يكون الضغط أعلى من الضغط فوق اليابسة فتلطف جو اليابسة وهذا ما نسميه نسيم البحر. وفي الليل تفقد البحار والأسطح المائية حرارتها ببطء فتبقى دافئة نسبيًا طوال الليل، وتدفئ الهواء الملامس لها فيرتفع وينخفض الضغط وتهب الرياح الباردة من اليابسة حيث الضغط العالي إلى البحر مما يؤدي إلى تدفئة اليابسة على الشاطئ.
وبهذا تكون الحرارة النوعية التي قدرها الله للماء سببًا في جعل البحار مكيفًا لدرجة حرارة الأرض في الليل والنهار، ولو لم تقدر تلك الحرارة النوعية المناسبة لاختلت حياة الكائنات على الأرض. فمن قدر تلك الحرارة النوعية للماء التي بها تصبح درجة الحرارة على الأرض مناسبة لحياة الكائنات عليها؟ إنه الله الذي خلق كل شئٍ فقدره تقديرًا.
المذيب العام:
والماء يذيب معظم المواد، ولا يوجد مركب آخر له نفس هذه الخاصية ولذا فهو المادة المناسبة لغسل الثياب وتنظيف الأبدان. قال تعالى: {… وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (الفرقان:48). وهو المادة المناسبة لإذابة المعادن والأملاح من الجبال والصخور أو إذابتها في التربة فيسهل امتصاصها في أجسام النباتات، لتكون من المواد الغذائية للنبات والحيوان والإنسان. ويذيب ماء البحر غاز الأكسجين لتمتصه الأسماك والحيوانات البحرية، كما يذيب الماء ثاني أكسيد الكربون فيكون سببًا في تنظيم نسبته في الغلاف الجوي. فسبحان القائل: {… وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)} (الفرقان:48-50).
من آيات الله في الأمطار:
دار الجدل حول موضوع المطر والسحاب والرياح بين ثقافتين.
الثقافة الأولى:
ثقافة عهود الانحطاط التي جمدت أفكارها، وقصر فهمها، وغلبت عليها السطحية. ومن تلك السطحية تصورهم أن المطر ينزل من ثقوب عديدة لخزانات كبيرة في السماء وهذا إلغاء لدور السحب والرياح التي ذكرتها الآيات القرآنية.
والثقافة الثانية:
ثقافة عهود الاستعمار. وهي الثقافة التي ظهرت عندما تقدم العلم التجريبي، ونشأ في بيئة إلحادية تسعى إلى اعتساف الظواهر الكونية وتقديمها في صورة بعيدة عن الدلالات الإيمانية. إذ كلما اكتشفوا سنة من السُنن الإلهية ألبسوها ثوب زور من الإلحاد والتضليل! ولكونهم أصحاب هذه الاكتشافات وثق الناس بتفسيراتهم، ففسروها بما تهوى أنفسهم وبما يمليه عليهم جهلهم وعداؤهم للأديان وأهلها.
ومن ذلك قولهم: إن المطر شئ طبيعي، وهو عبارة عن حرارة تسخن مياه البحار، فالجزيئات الساخنة من الماء على سطح البحر تتحرر من قوة الترابط بالماء فيخف وزنها فتطير بخارًا في الهواء، ثم تأتي الرياح فتحرك هذا البخار وتسوقه إلى مناطق باردة في الجو فيتكثف مكونًا السحاب، ثم تثقل القطرات بزيادة حجمها فينزل المطر. ونتيجة لهذه العملية تحدث شحنات كهربية فتكون البرق والرعد. ويقولون عن هذه الأمور كلها شئ طبيعي؟!
فهذا التفسير لهذه السنن الإلهية جعل بعض المسلمين يتخذون موقفًا متعجلًا بقبوله وبعضهم يتخذ موقفًا رافضًا له جملة وتفصيلًا، فهيا لننظر إلى هذه الآيات وما تدل عليه من الحقائق والدلائل.
تكون السحاب:
تقوم حرارة الشمس بتبخير ماء البحر فيصعد إلى السماء ماءً عذبًا سائغًا. ولكن هذا البخار لا يستمر في صعوده ليصب في القمر أو المريخ، فليس المقصود أن يصب هناك إنما المقصود أن يصب غيثًا لعباد الله في أواسط القارات وشتى أجزائها، لأن الحاجة ماسة إليه هناك. وقد قدر الله نظامًا محكمًا وقدْرًا دقيقًا من الحرارة يصير به ماء البحر غيثًا لعباده، فلو زادت حرارة الشمس قليلًا لتبخرت مياه البحار كلها، لكنها حرارة مقدرة بقدر معين.
ولو كانت أسطح البحار أقل مساحة مما هي عليه الآن (3 4 اليابسة) لكانت الأمطار أقل مما هي عليه إذ تنقص كمية الأمطار كلما نقصت مساحة أسطح البحار، فوجود سطح واسع من البحار بهذا المقدار يتناسب مع القدر المطلوب من الأمطار على سطح اليابسة. وكل عام ترفع الطاقة الشمسية، بإذن الله، حوالي 400.000 كيلومتر مكعب من الرطوبة، يسقط ثلثاها ثانية فوق المحيطات بينما يصل الباقي إلى اليابسة في صورة أمطار أو ثلوج أو برد أو ندى.
سنن الله في تكوين ماء المطر العذب:
1- سنة الرفع والإيقاف والتحلية:
لقد جعل الله سبحانه وتعالى حرارة الشمس والرياح سببًا في رفع بخار الماء من البحار إلى ما فوق مستوى الجبال وذلك لكي لا تعوق الجبال انتقال الماء من فوق البحر إلى أواسط القارات، ولكي تتكاثف جزيئاته مكونة السحاب.
وجعل الله تعالى لارتفاع بخار الماء هذا حدًا يقف عنده ولا يجاوزه إلى آفاق الكون لكي لا يغادر الأرض إلى غير رجعة. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (المؤمنون:18). ورفع الله ماء البحر بخارًا ولم يرفع معه الملح الذي يختلط به كي لا يضر ذلك الملح بالإنسان والحيوان والنبات، ولو شربنا منه وهو ملح أجاج أو سقينا منه زرعنا لأهلكنا وأهلك الزرع والحيوان.
ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} (الواقعة:68-70). وأجاجًا أي ملحًا.
2- سنة تجميع بخار الماء:
إن بخار الماء خفيف يتصاعد إلى أعلى ولا يرى إلا إذا تكثف، فيرسل الله الرياح محملة بذرات الدخان والأتربة وحبوب اللقاح وغيرها من نويات التكاثف، فتتلقح جزيئات بخار الماء بها فتستثيرها، فيتجمع بخار الماء حول تلك الجزيئات مكونًا أغلفة مائية فتتكون قطيرات مائية يمكن رؤيتها فنشاهدها سحابًا. وبازدياد نمو تلك القطيرات تتحول إلى قطرات ثقيلة فتنزل مطرًا. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الروم:48).
3- سنة سوق السحب :
وهناك سنة إلهية ثالثة وهي سنة نقل هذا الماء من فوق البحار إلى أعماق القارات وذلك بواسطة الرياح التي تسوق السحب دون أن تتقاضى من الناس ثمنًا أو أجرًا، لأنها مسخرة لهم بأمر الله جل وعلا. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف:57). فهذه الآية تحدثنا عن نقل الرياح للسحب، وأنها هي التي تسوقها بأمر الله سبحانه وتعالى {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}.
وقد ثبت أن هناك مناطق صحراوية مجدبة تحولت إلى مناطق زراعية. وكما أن الله حول تلك المناطق الميتة إلى أرض حية فإن الله يبعث الموتى كذلك بإنزال مطر من السماء تنبت منه أجساد الآدميين. قال تعالى: {…فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف:57).
انظر إلى الحكمة في تقدير الرياح، إنها تسير وفق أقدار محكمة ومقصودة، بحيث يكون قدرها وسرعتها مناسبين جدًا لاستثارة السحب ونقلها، ولا تكون مدمرة. ولقد أرانا الله عبرة ببعض العواصف والأعاصير المدمرة التي تبلغ سرعتها خمسة وسبعين ميلًا في الساعة، أما لو بلغت سرعة سير الرياح مائتي ميل في الساعة لما أبقت شيئًا على الأرض إلا ودمرته.
ولتعلم آثار رحمة الله عليك فاعلم أن هذه الرياح الفائقة السرعة موجودة في الأرض فوق رأسك، والمسافة بينك وبينها خمسة أميال فقط، حيث توجد منطقة اسمها منطقة التيار النفاث. فالرياح التي تسير بسرعة مائتي ميل في الساعة على ارتفاع خمسة أميال فوق سطح البحر لو اقتربت من سطح الأرض لاختل نظام الحياة، واختل النظام الذي يسير عليه المطر.
ولو كانت المنطقة رقم ثلاثة بدلًا من المنطقة رقم واحد الموجودة على سطح الأرض لما تحرك ماء إلى داخل القارات ولظلت الأمطار فوق البحر ولمات الناس والأنعام والزرع عطشًا. فانظر إلى التدبير الحكيم في هذه الأرض.
4- سنة إنزال المطر:
إن السحاب المسخر بين السماء والأرض تعادلت فيه قوة الجاذبية التي تجذبه إلى أسفل مع قوة الرفع التي ترفعه إلى أعلى، ولو استمر هذا التعادل بين القوتين لما نزلت قطرة ماء واحدة ولكن الله جل وعلا يرسل الرياح لحمل السحاب إلى ارتفاعات أكثر برودة فيزداد التكثيف ويزداد حجم القطرات ويتبارك الماء في تلك القطرات ويزداد ثقلها فتتغلب الجاذبية على قوة الرفع فينزل المطر بقدرته سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف:57). ولكي لا ينزل الماء كتلة واحدة فقد جعل الله سنة التوتر السطحي في قطرات الماء سببًا في نزوله على شكل قطرات صغيرة حتى لا يحدث الدمار على سطح الأرض.
5- سنة جريان ماء المطر وانتشاره في الأرض:
لقد جعل الله سنة تكوين الأنهار وسيلة لجريان مياه الأمطار ونشرها في الأرض إلى مساحات واسعة لتتحقق الاستفادة منها في أوسع رقعة. فالماء يجري أنهارًا على سطح الأرض وغيولًا وسيولًا منتشرًا فيها كما تنتشر عروق الدماء في جسم الإنسان قال تعالى: {… أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17). وقال تعالى: {… وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} (إبراهيم:32).
كما يجري الماء في جوف الأرض في مسالك محددة في الصخور تشبه الأنابيب فإذا ما انكسرت في جزء منها تفجرت منها العيون، فيصل نفع تلك المياه المخزونة إلى مسافات بعيدة تنشأ بسببها واحات الصحراء وغيرها. قال تعالى: {… وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} (الزمر:21).
6- سنة امتصاص سطح الأرض للماء:
لو أن مياه الأمطار كلها بقيت على سطح الأرض التي نزلت عليها لكونت بحيرات ومستنقعات كبيرة تفسد حياة الإنسان، فلا يتمكن من السير أو الزرع أو البناء على ذلك السطح المغمور بالماء، لكن الله جعل لسطح الأرض خاصية تسمح بنفوذ الماء وامتصاصه إلى الطبقات السفلى القريبة من السطح، حيث يجري في مسارات ومسالك ويتجمع في خزانات جوفية بعيدًا عن جراثيم التعفن تاركًا سطح الأرض صالحًا للحياة عليه دون عائق من الماء. قال تعالى: {… فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ…} (المؤمنون:18).
7- سنة خزن المياه في جوف الأرض:
ولو استمرت سنة نفوذ الماء إلى باطن الأرض وغوره فيها، لغاب عنا في أعماق الأرض البعيدة ولحرمنا من الانتفاع به بصفة دائمة، لكن الله جل وعلا جعل في باطن الأرض القريبة خزانات للمياه من حجر وطين تحفظها من الغور في باطنها وتجعلها قريبة من الإنسان لتمده بماء دائم. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} (الملك:30).
غيث الاستسقاء:
إن الله خلق الخلق وقدر المقادير وأجرى السنن لانتظام سير الكون، وضبط تعامل المخلوقات مع تلك السنن ولتكيف حياتها وفقًا لها، ولكن الذي قدر تلك السنن يستطيع أن يوجد آثارها عن طريقها أو عن طريق سنن أخرى غيرها أو بأي كيفية يريدها في أي وقت يشاء. قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82).
ومن ذلك ما نعرفه من إجابة الله لدعاء المسلمين الذين يخرجون لصلاة الاستسقاء عندما يشتد الجفاف في بلادهم فيفرج الله عنهم كربهم ويجيب دعوتهم ويسوق الغيث إليهم في غضون ساعة أو ساعات، وبعضهم لا يرجع من مكان صلاة الاستسقاء إلا تحت وقع المطر في وقت يئس الناس فيه من سقوط المطر، لأن السنن المعتادة لنزوله غير متوفرة.
لكن خالق السنن سمع استغاثة الداعين ولجوء اللاجئين إليه ورأى مكانهم الذي هم فيه فساق إليهم المطر بسنن أخرى إلى مكانهم المحدد على وجه الأرض، وهو القائل سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82). والقائل سبحانه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186).
سل أباك وأمك أو أحد أقربائك وسل شيوخك العارفين برحمة ربك سميع الدعاء، سلهم عن إجابته دعوة المضطرين، وإغاثة الملهوفين، سلهم كم أصيبت أراض بالجفاف، وانعدم المطر، فخرج المسلمون كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون ربهم مستغيثين فيجيبهم وينشر رحمته عليهم. ذلك هو التطبيق العملي الذي نعرف به أن الخالق سبحانه هو سميع مجيب الدعاء وهو القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186).
تفكروا يا أولي الألباب:
علم الله أن الكائنات الحية في الأرض ستحتاج إلى الماء، وقدر وعلم أنها ستعيش على سطح الأرض، فخلق الماء وأخرجه من باطنها إلى سطحها كما قال تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات:31). وعلم أن الماء يتعفن فجعل ماء البحار يختلط بالملح حتى لا يتعفن. وعلم أن السكان في القارات بحاجة إلى الماء، فسخر الشمس لتبخير المياه وسخر الرياح لرفعه وسوقه وعلم أن ما على سطح الأرض يتضرر بنزول الماء كتلة واحدة فأنزله على شكل قطرات.
وعلم أن تركه على سطح الأرض يفسد الحياة على سطحها، ويفسد الماء بتعفنه بسبب جراثيم التعفن، فسلكه ينابيع في الأرض بعيدًا عن الجراثيم ولكي لا يعيق السير على الأرض والزراعة فيها، وأجرى من تلك الأمطار أنهارًا لتنتفع به مساحات شاسعة تمر عليها تلك الأنهار. وجعل جريان الأنهار مانعًا من التعفن كما جعل الأنهار وسيلة للانتقال أيضا. وعلم حاجه الناس إلى هذا الماء فخزنه قريبًا من سطح الأرض ليمدهم من العيون والآبار بماء دائم طوال العام حيث لا تتوافر الأنهار. فتلك آيات وأدلة شاهدة بأن الخالق عليم وأنه رحيم بعباده وأنه الرزاق سبحانه.
وتأمل كيف أحكمت كمية المياه التي خلقت مع الأرض مع حاجة من سيعيش عليها وكيف أحكمت سعة أسطح البحار مع مقدار الأمطار التي تحتاج إليها الأرض، وكيف أحكمت حرارة الشمس وقدرت لترفع المقادير المطلوبة من الأمطار، وكيف أُحكم توزيع الحرارة في طبقات الجو بما يسمح بتكوين السحب وإبقاء الماء دون انفلاته عن كوكب الأرض. وكيف كان الإحكام في سرعة الرياح في طبقات الجو بما يسمح بحركة الغلاف الجوي ويمنع التدمير على الأرض.
وتأمل الإحكام في هطول المطر على شكل قطرات صغيرة لا تضر ولا تدمر والإحكام لانتشار الماء في جوف الأرض ليغطي مساحات واسعة منها تهيئها لحياة الكائنات. وتأمل الإحكام في خصائص طبقات الأرض بحيث تسمح بنفوذ المياه دون أن تغور إلى أعماق بعيدة وسترى مما سبق آثار الرحمة التي تدلك على الرحيم، والقدرة التي تدلك على القدير، والقوة التي تدلك على القوي، والخبرة التي تدلك على العليم الخبير، وإجابة الدعاء التي تدلك على السميع المجيب.
وهكذا تشهد المخلوقات ببعض صفات ربها وخالقها لكل عاقل، فكل ذلك أدلة شاهدة بأنه من تقدير الله الخالق الحكيم العليم العظيم الرزاق الرحيم سبحانه.
المصدر: كتاب (علم الإيمان) للشيخ عبد المجيد الزنداني